بقلم: د. عبد العظيم محمد الصديق*
يكثر الحديث في الغرب عن الدين والمتدينين ولا يكاد البحث عن الأديان والتدين ينقطع أو يخف، و مداده كذلك لا يجف، وذاك بسبب لزوم الدين وملازمة التدين لكل أحد، رغب من رغب، وكره من كره. وإن الخالق - عزت قدرته وتجلت حكمته- قد فطر الناس علي الدين فغدا فيهم فطرة وجبلة . ومن اللزوم والملازمة هذه تكون أهمية المؤسسة الدينية سواء للحاكم أو المعارض أو المعترض أو المحكوم من جملة الرعية. أما الحاكم فانه يري في نفسه أنه يحكم الناس بأمر الله ويسوسهم بتفويض منه وأنه النعمة المسداة و البركة المهداة.
و المعارض يري في الحاكم خلاف ما يري المسكين من نفسه ولا يكاد يجمعهما شيء واحد أبدا وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان. وخير منهما في الظاهر المعترض الذي رضي حكم الحاكم وارتضي سلطانه ولكنه وطن نفسه فإن رأي خيرا أظهره وإن رأي غير ذلك نصح وبين واعترض. وعلي هذا فإن الناس بين حاكم ومعارض ومعترض ومحكوم. وظاهرة الاعتراض هذه واضحة بينة عند أعضاء الحزب الواحد في الغرب من ذوي الرأي المعتبر لدي السلطان أو إن شئت فقل "أهل الحل والعقد" وهذا قد يشمل عندهم كل من "هبّ ودبّ" كما نقول نحن إذا أردنا أن نهوّن من أمر اجتماع رأي الناس علينا.
واجب الحاكم أن يسير بالسوية وأن يعدل في القضية، وعلي المعارض أن يقدم مصلحة من يعارض باسمهم علي مصلحته. وعلي المعترض كذلك مثل ذلك، وأن لا يحابي حزبه الحاكم علي حساب المعارض والمحكوم. والمعترض من بين هؤلاء في شر المنازل فهو إن جاهر فقد ارتد سياسيا وانتكس حزبيا عند الحاكم، وإن آثر الصمت فقد جبن وداهن ونافق عند المعارض، ولا نفع فيه لمحكوم مغلوب علي أمره لا يملك حيلة ولا يهتدي سبيلا. أقول هذا توطئة لحديث قد يطول عن الحاكمية بأمر الله إن كان في العمر بقية فلا يعجل علينا القارئ الكريم.
المعترض البائس حاكم مع الحاكمين بحزبه وإن لم يعرف ذلك أو يعترف به، ومعارض مع المعارضين برأيه و إن لم ينتظم معهم في سلكهم فيسلم بذلك من أذي الوقحين من سفهائهم، وهو مع هذا كله واقع لا محالة مع عامة المحكومين. وهذا حال كثير من الناس اليوم فان لم تكن منهم فاحمد الله علي السلامة وسل الله العافية.
وهذا الأمر ليس خاصا بالمسلمين كما نظن ولكنه حال الناس في كل زمان ومكان. لي جار هنا ديمقراطي إسمه "دينز" شديد الولاء للحزب الديمقراطي الحاكم الآن هنا في أمريكا و لكنه لا يعجبه كثير من قرارات حزبه فهو لا يبوح بها إلا لخاصته خشية التأليب وفقدان حزبه الحكم في ظنه، فالحكم عنده غاية كبري و إرادة عظمي يبذل لها كل نفيس وكل شيء دونها رخيص . وحال صديقي "دينز" و أمثاله في الغرب أفضل كثيرا من حالنا كما تعلمون فإن لهم ملاذات ومرجعيات لها قوة وسلطة وصلاحيات عند الاختلاف والائتلاف لا كحال البائسين منا الذين لا يجدون إلا الحوقلة والاسترجاع وكظم الغيظ و بعض أذكار نرددها و أوراد ندندن بها نجد بعدها سكينة و طمأنينة فيصدق علي بعضنا قول ماركس: " الدين أفيون الشعوب".
وماركس في قوله ذاك لم يزد أن وصف حالة المغلوب عليهم في الغرب تحت سلطان الكنيسة وهيمنتها في زمانه. وفي ذلك فهو عند الغربيين لا يعدو كونه باحثا اجتماعيا متميزا يشخص ويصف علة اجتماعيه عصية سببها الكنيسة. وعلي هذا الفهم فإن الذين يحاربون قولة ماركس الشهيرة إنما يظنون أنه يهاجم الدين في أصله ولكنهم لا يدرون أنهم يدفعون عن الكنيسة وممارستها السيئة التي ثار عليها ماركس ومن بعده من الثائرين في الغرب والشرق وإن خالفوه في المنهاج. و أمر آخر مهم أن الغرب عموما هين لين سهل ومتسامح في داخله مع بنيه ومواطنيه ، وباطش غشوم ظلوم مع غيره . والشرق -كما علمت -خلاف ذلك وضده ونقيضه.
والظلم ينفي وينقض كل فضيلة، ولو حرص الغرب علي نشر فضائله الكائنة فيه حرصه علي الهيمنة علي الشعوب والأمم المستضعفة لنفع وانتفع وعم الخير ولكن طمس البصائر وإتباع الهوى ونقص القادرين علي التمام قد حال دون ذلك.
وإنه لمن المحزن حقا أن لا يجد الزائر للشرق بعد طول انقطاع بلدا واحدا يفخر ويفاخر به جملة وإني هنا أستثني الشعوب المستضعفة والأحزاب المعارضة النزيهة والمعترضين المخلصين فلم يبق إلا الحاكم المتسلط.
لقدحاول الغرب الخروج من بطش الكنيسة إلي فصل الدين عن الدولة فنجح وأخفق ويحاول جهده أن يسد فجواته بالبحث عن الروحانيات في كل مكان وممن كان ،ولكنه نجح في تأمين وحراسة قدر من الحريات ضمن للفرد كرامته وحقه في العيش الكريم وترك الشرق خلفه بمسافات و مفازات ليجتر ذكريات أيام عمر وعدله و يبكي علي أطلال الخلفاء الراشدين . والشرق في محاولة الجمع بين الدين والدولة سادت فيه الدولة علي حساب الروح و الأخلاق والمثل وغدا الدين فيه مطية لهوي السلطان وأصبح التدين يابسا خاليا من كل رحمة وتراحم وطغا فيه الحرف والنص المجرد من كل معني وساد فيه الزي علي السمت. بل أصبح الدين سلاحا يحارب به كل معارض و معترض. ولو أن الأمر وقف عند ذوي الرأي لقلنا تلك زكاة الرأي والعلم والحلم في أرض الجهل ولكنه تعدي إلي العامة والمغلوب علي أمرهم من المستضعفين من النساء والولدان.
أكتب هذا بعد أن هاتفتني إبنة عم لي من مدينة أيوا سيتي تسألني إن كنت قد رأيت حادثة جلد الفتاة السودانية علي شريط الفيديو الذي كاد يدخل كل بيت فأخبرتها أن ابني الأصغر أرانيه فلم أصدق عيني، ورحت أبحث عن مخرج كما يبحث كل واحد منا حين يتورط في مواجهة جادة مع واحد من أبنائه . لم أجد لي مخرجا واعترفت بضعفي وقلة حيلتي وزاد في مصيبتي قول ابني لي: " لماذا لا يعترف الناس عندكم بأخطائهم ويعتذرون عنها ويحاسبون عليها ولا يعودون لمثلها ؟". ولم أفق من شبه غيبوبتي إلا علي سيل من استفسارات منحدر، وتمنيت تلك الساعة أن لو مت وكنت نسيا منسيا . ألم يبلغنا عن أمير المؤمنين علي قوله: " ولو أن امرءا مسلما مات بعد هذا أسفا ماكان عندي ملوما، بل كان به جديرا" ؟، وذاك حين بلغه أن الرجل من جند خصومه كان "يدخل علي المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع قلبها وحجلها و رعثها" فما تجد ما تمتنع به منه إلا الاسترجاع. لقد ظللت كل سني غربتي واغترابي أحدث أبنائي عن أهلهم في السودان. أحدثهم عن الكرم والشهامة وإكرام الضيف واحترام المرأة وتقديرها فذهب كل ذلك أدراج الرياح. "أف أف، وحس حس، وأح وأح وكل كلمة قالتها العرب في التأفف والتحسر والتوجع" ، ورحم الله الأستاذ الدكتور الشيخ عبد الله الطيب والحمد لله الذي قبضه إليه حتى لا يري هذا أو يسمع به.
ولك الحق أيها القارئ المحترم أن تعلم أني أعاني من صداع حاد لم يفارقني منذ مواجهة ابني الصغير لي، وعدت إلي ما حفظت من مديح و دوبيت في الفخر والمفاخرة وبكيت كل من مضي من أجدادنا الأشاوس الذين قضوا نحبهم دفاعا عن تراب البلد الغالي ومثله وقيمه وأخلاقه. لم يبق لنا ذاك الشرطي شيئا نفخر به والله. وإن شعبا تضرب نساؤه ضرب الحمير وهن يستغثن ولا مغيث لشعب جدير به أن يدس رأسه في التراب وأن يتواري عن الناس خجلا لموت مروءته واغتيال كرامته. وإني مع هذا كله أعلم جيدا أن عددا كبيرا من أبناء بلدي سينكر علي قولي هذا فقد أوتينا حظا عظيما في التغاضي والتغابي والتنكر والتعامي والتصامي وتبلد الحس والإحساس ومتنا قبل موتنا فصدق فينا قول أبي الطيب:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
رحم الله ود البوستة حين قال مفتخرا بلسانه السوداني الأصيل:
أنا حلال رفيقو
وأنا فرج الرجال وقتين يضيقوا
أنا الدابي إن رصد للزول يعيقو
و أنا المامون على بنُّوت فريقو
ورحم الله شاعرنا الفحل شيخ البطانه الحاردلو إذ يقول:
عقب يا نديم للتاكا جيب أخبارا
جيب خبر التلاينه الفارقوها حياري
المكسيم جعر والجلة شبت نارا
نركز كالأسود سودانا ما بضارا
إن السكوت علي الجريمة جرم عظيم و إن الدفاع عن المجرمين من أكبر المصائب التي تبتلي بها الشعوب، و للشرق نصيب وافر من ذلك في جاهليته و إسلامه . وإن الذي يرضي ذلك الفعل القبيح ويقره ويدفع عنه إفتراء علي الله لمريض عليل وعلي السودانين دخيل غريب، ومن حق كل سوداني أصيل أن يسأل نفسه من أي بلاد الله الواسعة أتي ؟. وشرهم حالاا عندي هو ذاك القاضي الذي أصدر الحكم و أجازه وشهد تنفيذه تعبدا لله في ظنه وهو يردد في سريرة نفسه " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين".
لقد أساء القاضي ذاك لنفسه ومهنته ومكتبه وشعبه وأمته ودينه وقدم لخصوم الإسلام والمسلمين هدية عظيمة ثمينة. وصدق أبو الطيب حين قال:
ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويُؤْلمُ
وليت قضاة الأرض يتفكرون في قضاء السماء قبل إصدار أحكامهم علي كل مستضعف بائس
إذا جار الأمير وحاجباه *** وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثم ويـــل ثم ويـــل * ** لقاضي الأرض من قاضي السماء
لقد فشلت المؤسسة الدينية عبر الأزمان والأماكن أن تلتزم وتطبق ما بعث الله به الرسل إلي الناس ، ولن تفلح أبدا إلا إذا تجرد القائمون عليها للحق ونزهوا أنفسهم أن يكونوا أداة للسلاطين وأبواقا للمستكبرين. ولا يختلف عاقلان أن المؤسسة الدينية كانت وستظل من أكبر أسباب الصد عن دين الله حين لا تتحذ الله رقيبا عليها وعندما لا يكون القائمون بأمرها شهداء لله ولو علي أنفسهم . ولقد رأيت وسمعت كثيرا من الناس قد تركوا الذهاب إلي المعابد والكنائس ودور العبادة بسبب القيمين عليها والحاكمين باسمها وصاروا يعبدون الرب في بيوتهم . ومنهم من ترك العبادة جملة وسلك طرقا يلتمس فيها الفكاك من قبضة المؤسسة الدينية الفاشلة.
وللحديث بقية إن شاء الله
________________________
* باحث و أستاذ جامعي سوداني مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية