روائع الاحتساب في بيت النبوة
ناصر أحمد العاهمي/ المختار الإسلامي
يأوي نبينا الكريم عليه الصلاة وأزكى التسليم إلى مضجعه لينام، فإذا به يرى في منامه ملكاً كريماً ومعه سُرَقة من حرير، فيكشفها فيرى فيها زوجه عائشة الطاهرة العفيفة -رضي الله عنها- ويخاطبه الملك قائلاً: «هذه زوجتك فيعجب لذلك ثم ما يلبث إلا قليلاً حتى تتكرر الرؤيا ثلاث مرات، وفي كل مرة يكشف سُرَقة الحرير فيراها مرة أخرى، فيقول: إن يكن هذا من الله يمضه»(1)
وكان ذلك من الله -سبحانه- فيتقدم لخطبتها من أبيها الصديق -رضي الله عنه- فيقول له: «إنما أنت أخي, فيرد عليه الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ولكنها تحل لي»(2)، فيتم العقد عليها وهي ابنة ست سنين.
وتمر الأيام والسنون فيهاجر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وتلك الأسرة الطيبة إلى المدينة المنورة، وتشب عائشة -رضي الله عنها- شباباً حسناً ويكون لها من العمر تسع سنين، وتصلح أمها من شأنها مع نسوة من الأنصار، فلم يرع تلك الشابة إلا مجيء زوجها إلى بيت أبيها فتدفع إليه في شهر كان يتشاءم بالدخول بالنساء فيه، ويكون عكس ما يظنه أهل الجاهلية تماماً، فتملأ قلب النبي الطاهر حباً حتى إنها كانت أحب الناس إليه على الإطلاق، وكانت أحظى زوجاته عنده -صلى الله عليه وسلم-.
ويجتمع الزوجان السعيدان في حجرة ضيقة لا يجد الزوج فيها مكاناً ليضع جبهته للسجود إلا أن يغمز رجل زوجه لتقبضها فيسجد مكانها، لكن ذلك كما قيل:
سم الخياط مع الأحباب ميدان *** خضر الجنان مع الأعداء نيران
يجتمع الزوجان السعيدان على شظف من العيش، حتى إنه كان يمر عليهم الشهران لا يوقد في ببيتهم النار على طعام وإنما يقتاتان الأسودين التمر والماء، ومع ذلك تخيم السعادة الزوجية على البيت النبوي الطاهر وينبعث منه كل معاني الحب والمودة والسكن والرحمة أفعالاً وأقوالاً؛ يحدث أن يجتمعا على طعام فيه لحم تأكل حبيبته اللحم فيأخذ العظم ليضع فاه محل فِيها ليشعرها بتمام الود.
يخرجان فيتسابقان في الطريق فتسبق الزوجة زوجها، وفي يوم العيد يوم الفسحة في ديننا تشتهي الزوجة الطاهرة النظر إلى الحبشة الذين يلعبون بالحراب في المسجد فيعلم ذلك منها فيقول: «تشتهين تنظرين؟ فتقول: نعم» فيحدث مشهد في أعلى درجات الروعة، إنها تضع خدها على خده الشريف(3) فتنظر حتى تمل ولتختبر مكانتها عند زوجها الحبيب، فكان كلما قال لها: «يكفيك، قالت: مازلت» لتُعلم حظوتها عنده.
وكان يسرب إليها الجواري ليلعبن معها، ويستمع لحديثها العذب وما تقص عليه من قصص وحكايات قد تكون من نسج خيال مؤلفها، ومن ذلك أن فرس جبريل -عليه السلام- له جناحان؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو خيبر وفى سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: «ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه»(4).
إنه من شدة محبته لها حينما نزلت عليه آية التخيير كان يخشى ألا تختاره، فقال لها: «إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبويها لم يكونا ليأمراها بفراقه»(5)
إنه -صلى الله عليه وسلم- لفرط محبته لها يعلم متى تكون عليه غضبى أو في حالة رضا من ملحظ لطيف يبينه بقوله -صلى الله عليه وسلم- لها: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك»(6)
وهاهنا يتساءل المحب لأهله الشغوف بهم: كيف ينكر على من ملك حبها قلبه وبلغ شغافه ويختلج خاطران في نفسه أينكر عليها وهو يخشى على مشاعرها، أم يتركها تفعل المنكر ليبرهن لها أنه شديد الشغف بها؟!!
أقول لمن هذا حاله: دونك هذه الصور والمثل العليا من سنة سيد المرسلين لتكون لك نبراساً فتجمع بين بقاء المودة وعدم السكوت على المنكر:
الصورة الأولى:
تأتي إليه في خمار مصبوغ زعفران وتقعد إلى جانبه في غير نوبتها، فينكر عليها بأسلوب في غاية اللطافة، تسوقه صاحبة القصة فتقول -رضي الله عنها-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد على صفية بنت حيي في شيء، فقالت صفية: يا عائشة هل ترضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني ولك يومي؟ قالت نعم، فأخذت خماراً لها مصبوغا بزعفران، فرشته بالماء؛ ليفوح ريحه، ثم قعدت إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة إليك عني، إنه ليس يومك، فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فأخبرته بالأمر فرضي عنها»(7)
فإنكاره لا لكره لها أو عدم محبة، ولكن لأن هذا اليوم ليس يومها، فهذا هو المانع الوحيد له عنها -رضي الله عنها-.
الصورة الثانية:
حينما ثقل عليه المرض كلف أباها بالصلاة للناس فاعترضت وأبدت عذراً وفي نفسها غيره، ففهم ذلك فأنكر عليها بأسلوب أفهمها أنه قد علم ما تريد وما ترمي إليه؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: «لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت: لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر، فقالت له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس»(
ووجه الشبه ظاهر بينهن وبين صواحب يوسف -عليه السلام- فامرأة العزيز استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به.(9)
الصورة الثالثة:
تتملكها الغيرة مرة فتتصرف تصرفاً يضر بغيرها فتكسر صحفتها، فيبين سبب هذا التصرف وهو الغيرة، وفي طياته الاعتذار لها ولا يعاتبها، ولكنه يأخذ الحق منها فيحبس لها الصحفة المكسورة ويدفع للأخرى صحفتها؛ فعن أنس -رضي الله - قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم, ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»(10).
ومع كل هذا الود وحسن العشرة ومراعاة المشاعر إلا أنه لا بأس في الحالة النادرة أن يزجر الرجل أهله بالهجر أو بالضرب غير المبرح للتأديب لاسيما وقت كون المنكر يستدعي ذلك؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: لما كانت ليلتي التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: «ما لك يا عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!»(11)
وحادثة أخرى ترويها -رضي الله عنها- فتقول: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هتكه، وقال: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين»(12).
ومن الصور السابقة وغيرها الكثير يكون الاحتساب بين المحبين الأصل فيه اللين والعطف، وذلك لأن هذا الاحتساب يخدم مقصداً عظيماً من مقاصد الشريعة وهو حفظ النسل، وقد يُخرَج عن هذا الأصل إلى الشدة أحيانا في صور يراعى فيها مقتضى الحال، ومثل هذا لا يكون دليلاً على الكره بل هو من تمام المحبة؛ لكونه من وقاية الأهل النار التي وقودها الناس والحجارة، وينطبق عليه قول الأول:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً *** فليقس أحياناً على من يرحم
والله أعلم.
_________________
(1) صحيح مسلم (4/ 1889).
(2) الإصابة (8/17).
(3) صحيح مسلم (2/607).
(4) سنن أبى داود (4/ 438)
(5) صحيح البخاري (11/ 593).
(6) صحيح البخاري (13/ 201).
(7) سنن ابن ماجه (1/634) وفيه سمية البصرية قال عنها الحافظ مقبولة انظر: تقريب التهذيب (2/748).
(
صحيح البخاري(2/76) صحيح مسلم (1/ 311).
(9) فتح الباري (2/492)
(10) صحيح البخاري (13/ 197)
(11) صحيح مسلم (2/ 669)
(12) صحيح البخاري (15/ 99).